أسمع دائما من بعض الإخوة العرب ما معناه أن اللهجة الجزائرية عصية عن الفهم على غير أهلها. والحقيقة أنها كذلك على غرار اللهجات قاطبة في الأقطار العربية لمن لم يتجشموا عناء فهم الآخر. لكنني غالبا ما أرد على المعاتبين بأن الجزائريين يحذقون لهجات مشرقية كثيرة مثل المصرية والشامية وإن لم يتحدثوها.
الواقع أنه لا أحد لقن قطاعا واسعا من الجزائريين معاني لهجات تفصلهم عن أهلها آلاف الكيلومترات، ما لم يكن لديهم شغف بفهم الآخر ومد جسور التعارف غانمين مما أتاحته السينما ومن بعدها التلفزيونات الفضائية والانترنت.
ثم إن اللغة الدارجة في الجزائر هي لهجة سليلة العربية الفصحى، لكن طرأت عليها تغيرات وتشربت من الموروث الأمازيغي والتركي والفرنسي والإسباني حتى تمايزت عما سواها.
دخلت اللّغة العربية الجزائرَ بقدوم الفاتحين الأوائل من المسلمين، بقيادة موسى ابن نصير. وكانت قبلها الأمازيغية لغة سائدة وسيدة بين شعوب شمال إفريقيا. فلما اعتنق البربر الإسلام واختلطوا بالناطقين بالعربية لغة الدين والديوان وقتئد، نالها نصيب من التغيير.
ويعزو المؤرخون ما شاب العربية من تبدل، إلى أن ألسنة الأمازيغ لم تتعود على مخارج الحروف العربية، كما لم تتعود العرب النطق بالأمازيغية، ما أدى إلى تأثر اللغة العربية في المنطقة كما في أقاليم أخرى بلسان السكان الأصليين، فتبنت كثيرا من كلمات منطوقهم ولانت لقواعده النحوية.
ومن نافل القول أن مقدار تغيّر العربية في الجزائر يعادل نظيراتها في جميع أنحاء الوطن العربي. ويُقاس في علم اللسانيات بالابتعاد الزمني عن اللغة الأم أكثر مما يقاس بالاحتكاك مع لغة أخرى. وتحضرني هنا مقولة ابن جني بأن "العرب تختلف أحوالها في تلقي الواحد منها لغة غيره، فمنهم من يحف ويسرع فيقول إنه لم يسمع، ومنهم من يستعصم فيبقى على لغته، ومنهم من إذا طال تكرار لغة غيره عليه ألصقت به وتركت أثرها في كلامه".
وقد عرفت الجزائر في عصور ما قبل التاريخ، حضارات متعاقبة من الفينيقيين إلى الوندال، والبيزنطيين. وكان لتلك الأقوام أثرها على سكان البلاد، كما شهدت الجزائر والمنطقة الحضارة الرومانية التي مازالت آثارها شامخة إلى يومنا ومنها تيمقاد وتعني في الأمازيغية القديمة «المدينة».
مع ذلك استمرت اللهجات الأمازيغية من القبائلية الصغرى والكبرى والشاوية والطوارقية والزناتية والميزابية، مشكلة جزءًا من هوية الجزائر، ومازالت على تعاقب الأجيال تحتفظ بألفاظ ودلالات تعود إلى ما قبل الميلاد.
وهذا المقدسي الرحالة العربي، يصف لهجة شمال إفريقيا والأندلس، عندما نزل في بلاد المغرب في القرن الرابع الهجري، قائلا: "وفي المغرب الإفريقي عامة، لغتهم عربية غير أنها منغلقة مخالفة لما ذكرنا في الأقاليم، ولهم لسان آخر يقارب الروم».
كذلك بصم الاستعمار الإسباني في سواحل الجزائر أثرًا واضحًا في اللهجة المحلية، ثم جاء الغزاة الفرنسيون عام 1830 محاولين عبثا طمس الهوية والشخصية، فحظروا تداول اسم الجزائر وكان يشار إلى أهلها على مدى أكثر من قرن بأنهم "الفرنسيون المسلمون".
كذلك بصم الاستعمار الإسباني في سواحل الجزائر أثرًا واضحًا في اللهجة المحلية، ثم جاء الغزاة الفرنسيون عام 1830 محاولين عبثا طمس الهوية والشخصية، فحظروا تداول اسم الجزائر وكان يشار إلى أهلها على مدى أكثر من قرن بأنهم "الفرنسيون المسلمون".
ورغم الصراع والمقاومة الباسلة لرد سياسة فرنسا في محو مقومات الشخصية من تقاليد ودين ولغة، إلا أّن الاستعمار نجح على مدى أجيال في جعل الجزائريين يتعاملون في حياتهم اليومية باللّغة الفرنسية. ويصور المفكر الجزائري كاتب ياسين إتقان بني جلدته للفرنسية بأنه "غنيمة حرب" ظفر بها الجزائريون بعد قرابة قرن ونصف من الكفاح ضد الاستعمار.
لذلك فاللهجة الجزائرية اليوم خلطة من ترسبات حضارات ولغات متعاقبة، تطغى فيها الفرنسية التي تأثرت هي الأخرى بكلمات عربية بفضل التفاعل والاحتكاك. ويسرد "بيار جيرو" قائمة طويلة بكلمات عربية تسربت إلى المعجم الفرنسي على مر العصور. ويرجع الفضل في ذلك، إلى شعوب شمال إفريقيا الذين صبوا في الوعاء اللغوي الفرنسي مفردات مثل "toubib" أي طبيب وbled”" وتقابلها كلمة البلاد.
وأذكر هنا من منتخبات ما قرأت أن فردينان دي سوسير عالم اللغة السويسري، ومؤسس المدرسة البنيوية في اللسانيات، يصف اللّهجة الواحدة بالتميز والتفرد فيقول: "ولكل لغة لهجاتها وليس لواحدة منها السيادة على الأخريات". ورأيي من رأي كثير من المؤرخين بأن الجزائريين جديرون بالامتنان لتشبثهم بدينهم ولغتهم العربية والأمازيغية رغم ما سامهم الفرنسيون من شر العذاب على مر الزمان.
وأذكر هنا من منتخبات ما قرأت أن فردينان دي سوسير عالم اللغة السويسري، ومؤسس المدرسة البنيوية في اللسانيات، يصف اللّهجة الواحدة بالتميز والتفرد فيقول: "ولكل لغة لهجاتها وليس لواحدة منها السيادة على الأخريات". ورأيي من رأي كثير من المؤرخين بأن الجزائريين جديرون بالامتنان لتشبثهم بدينهم ولغتهم العربية والأمازيغية رغم ما سامهم الفرنسيون من شر العذاب على مر الزمان.
ولولا تضحياتهم وشدة بأسهم على مدى عقود لكانت العربية قد اندثرت بما حملت وخسرنا كعرب ومسلمين بلدا كبيرا مثل الجزائر، وكنا بكيناه كما نبكي إلى يومنا الأندلس بدموع حارة.
*تم نقله من موقع سكاي نيوز عربية للكاتب عبد الوهاب عميور
تعليقات فيس بوك